19 - 10 - 2024

صباحيات | في فيلم وندوة | رمسيس ويصا واصف ومدرسته الأبدية

صباحيات | في فيلم وندوة | رمسيس ويصا واصف ومدرسته الأبدية

استمتعت مساء أمس الأربعاء بالعرض الأول لفيلم "مدرسة أبدية" للمخرجة المتألقة نانسي كمال، في المسرح الصغير بدار الأوبرا، واستفدت أعظم فائدة من الندوة التي عقدت بعد الفيلم وأدارتها الإعلامية رانيا رياض وشارك فيها مخرجة الفيلم، ومدير التصوير نبيل سمير، والسيدة سوزان رمسيس ويصا واصف، وإكرام نُصحي، مدير مركز رمسيس ويصا واصف، وبحضور مجموعة من النساجات والنساجين المبدعين يمثلون جيلين في الصرح الثقافي والإبداعي الذي أقامه رمسيس ويصا واصف في قرية الحرانية بمحافظة الجيزة، ليصبح المهندس المعماري الراحل والمركز قوتين من قوى مصر الناعمة.

منذ بداية الفيلم وطوال الندوة أرقني سؤال بخصوص مستقبل هذا المشروع، خصوصا عندما استحضرت قرار "إزالة" متحف الخزاف المصري العالمي نبيل درويش، الذي يقع في منطقة قريبة في محافظة الجيزة، واتخذ هذا القرار موظفون في الطرق والكباري والحي لا يقدرون على ما يبدو قيمة مصر الفنية والثقافية، رغم ما حصلوا عليه من شهادات، فهم يتعاملون باستهانة مع رمز من الرموز الثقافية المصرية التي يقف لها العالم إجلالا واحتراماً. لا يختلف هؤلاء عن موقف سفير مصري سابق في إحدى الدول دُعي لحضور حفل بمناسبة افتتاح منزل بناه أستاذ أكاديمي على الطراز الذي ابتكره المهندس المعماري المصري العالمي حسن فتحي، عندما سأل السفير وسط ذهول الحاضرين من دبلوماسيين وأكاديميين ومثقفين، "من هو حسن فتحي"؟ من الغريب أن يكون سفير يمثل دولة جاهل ولا يعرف شيئاً عن أحد أيقوناتها، ومن الأغرب أنه لم يكلف نفسه أي عناء لمعرفة شيء عن الشخص الذي ارتبط اسمه بالحدث الذي سيحضره، حسن فتحي، الذي حظي بسمعة عالمية وارتبط اسمه بنظرية في العمارة، اسمها "عمارة الفقراء"، وكان سباقاً في الفلسفة التي يقوم عليها تيار العمارة البيئية الآخذ في الانتشار عالميا. 

في الحقيقة، أن اسم حسن فتحي كان حاضراً، ومنذ اللحظات الأولى في الفيلم من خلال صورة من الألبوم جمعت رمسيس ويصا واصف وحسن فتحي وآخرين من المهندسين المعماريين والأكاديميين والفنانين عرضت في اللقطات الأولى من الفيلم، وألح اسمه أيضا على ذاكرتي منذ اللقطات الأولى للمبنى الذي بناه رمسيس ويصا واصف من خامات البيئة وحمل الكثير من ملامح معمار حسن فتحي، إنه الإبداع المصري الفطري، الذي سيستمر أبداً. في نهاية الندوة، حصلت على إجابة على سؤال "الجيل الثالث" في مركز "الحرانية" الذي نال شهرة عالمية بإنتاجه الإبداعي الفطري، حينما أجابت السيدة سوزان التي أشرفت على صعود الجيل الثاني في المركز، على سؤال مباشر طرحته الإعلامية رانيا رياض قرب نهاية الندوة، وأشارت إلى أن هناك جيلا ثالثا ينشأ لكنها لا تعرف إلى أين سيمضي، انطلاقاً من تجربتها هي حين بدأت مع الجيل الثاني، التي لم يرغب والدها في أن تكون تكرارا أو استمرارا لتجربته، وأراد لها أن تكون تجربة جديدة بنت عصرها وتحمل سماتها الخاصة بها. 

لم يمنعني السؤال المؤرق بخصوص المستقبل والمصير عن متابعة منصتة وبتركيز شديد لكل لقطات الفيلم ولكل الجمل التي قبلت أثناء الندوة وفي تعليقات لبعض الحاضرين، فكلها تؤكد لي أهمية أن تكون لدينا مبادرة للنهوض بقوى مصر الناعمة. والحقيقة أن روح التجربة وآفاقها كانت تهيمن على أجواء العرض والندوة والنقاش، وحسنا فعل الصديق العزيز والخبير التنموي محمود مرتضي، وكان آخر المتحدثين من الجمهور، حين أشار إلى أن الفيلم يجدد الذاكرة، وينعشها وهو أفضل وسيلة لتجديد النقاش العام والاهتمام العام بتجربة رمسيس ويصا واصف، ليس لتكرارها وإنما لاستلهامها في تجارب أخرى وهو ما دعت إليه مراراً في مداخلاتها السيدة سوزان، رداً على التساؤلات أو الاقتراحات بتكرار هذه التجربة في أماكن أخرى. واقترح مرتضي، وهو خبير وباحث متمرس في الصلة بين تراثنا الإبداعي والثقافي ومشروعات التنمية، عرض هذا الفيلم وإجراء مناقشات حوله في كثير من المنتديات، وأضيف إلى اقتراحه عرضه في القنوات التلفزيونية في فترات ذروة المشاهدة، وفي المدارس التي يتعذر عليها تنظيم رحلات لزيارة المركز  

فلسفة الفيلم وفلسفة المشروع 

الفيلم المفعم بالمشاعر، رغم أنه ينتمي لنوع غير مألوف لنا في السينما، إذ تعودت ذائقتنا السينمائية على الأفلام الروائية، نال إعجاب جمهور الحاضرين ووجه الاهتمام والتناول طوال الندوة والمناقشات المليئة بالخبرات وبالدروس المستلهمة التي يمكن أن تكون أفكاراً لآلاف المشروعات الأخرى في مجالات مختلفة من الفنون والحرف الإبداعية. عندما تحدثت المخرجة عن مشروعها الجديد في إعداد سلسلة من الأفلام عن التلمذة والحرف في مصر، سألت صديقي العزيز الدكتور راجي ميخائيل، الأستاذ في جامعة "نورث وسترن" بولاية إلينوي الأمريكية عما إذا كانت تقصد "بالتلمذة" التعليم الحِرفي (apprenticeship)، أجابني إن المقصود هو (Discipleship) وعندما بحث عن معني الكلمة وجدتها تشير إلى مفهوم آخر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيمان المسيحي وجوهره -المحبة والحب، وإلى عملية تعلم كيفية محبة يسوع (المسيح) واتباع مثله في المواقف والأفعال. على الرغم من أن ضيقي الأفق المتعصبين لدينهم لن يستوعبوا هذا المعنى، إلا أنني حرصت على ذكره لأنه وثيق الصلة بفلسفة المشروع، وأيضا بفلسفة الفيلم، وأيضا ليكون فرصة لمناقشة ما قد يطرحه بعض من يتوقفون عند هذا السطر من المقالة من تعليقات وآراء، ولتأكيد رسالة بخصوص جوهر الإيمان وتمييزه عن الدين والتدين.

هذه الفكرة جوهرية في المشروع وأيضا في الفيلم. فالتدريب هنا لم يكن دافعه الأساسي تعليم الناس حِرفة جديدة يغيرون بها حياتهم للأفضل، فلسنا هنا بصدد عملية للتدريب الحِرفي أو تعليم حِرفة، مثل صناعة النسيج وحسب، وإنما أمام تجربة عنوانها الصدق والتفاني في الإبداع من خلال هذه الحِرفة، وهذا ما أعطي لمشروع "الحرانية" تميزه محليا وعالمياً، الفيلم والندوة كانا مناسبة لتسليط الضوء على هذه الفكرة، فكرة "تعلم المحبة والحب"، وأهمية هذه الفكرة في التغيير. لقد تحدثت طبيبة مهتمة بالسينما وعملت مع نانسي كمال في فيلمها الجديد إلى أن رمسيس ويصا واصف، واحد من صناع التغيير في مجتمعنا، وهم قلة قليلة صنعوا التغيير إما من خلال تجربتهم الشخصية الملهمة للآخرين، أو من خلال الآخرين بتحفيزهم وإظهار ما هو مكنون بداخلهم من استعداد فطري للإبداع، أو بالجمع بين الأسلوبين. هذه الفكرة كانت فكرة متدفقة في الفيلم وكذلك في حديث المشاركين في الندوة. ولفت انتباهي حرص الأستاذ سمير نبيل مدير التصوير على أن يشرح للجمهور بإسهاب التفاصيل الدقيقة لما فعله في الفيلم، وحديث المشاركين في الفيلم وفي الندوة، وهو حديث يتدفق حبا ومشاعر صادقة وبعبارة بسيطة وسهلة تمس القلوب قبل العقول.

في لحظة أثناء الندوة، قفز إلى ذاكرتي مارتن لوثر كينج، زعيم حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة في الستينات، في خطابه الشهير "لدي حلم" وهو خطاب مثير وحماسي، أتذكر أنه استخدم كمثال يشرح للمتدربين كيفية تحفيز الآخرين في ورشة عمل عن تنويع الموارد، نظمها المركز العالمي للموارد، ومقره نيويورك، في إسطنبول في تركيا في عام 2011، وهو خطاب أحرص على مشاهدته من حين لآخر، وأدعوكم لمشاهدته وتأمله، وتذكروا دائماً أن المشروعات الكبيرة تبدأ دائما بفكرة أو حلم، ثم اكتشاف طريقة لتحقيق هذه الفكرة أو الحلم، وهو ما فعله رمسيس ويصا واصف وزوجته، الفنانة التشكيلية صوفي حبيب جورجي، ابنة الفنان التشكيلي المصري، حينما ذهبا إلى الحرانية لشراء قطعة أرض وبناء منزل عليها ليكون نواة لواحد من المراكز الثقافية المصرية الخاصة التي نالت شهرة عالمية. المشروع بدأ بحلم وفكرة وكانت وسيلة تحقيقه كسب حب الناس وثقتهم والأخذ بأيديهم، والأهم من ذلك معايشة همومهم وأحلامهم، وهذه النقطة الأخيرة، هي السر الذي لا يزال حاضراً والذي ربط بين أسرة رمسيس ويصا واصف وأبناء الحرانية رغم تغير الواقع الاجتماعي، وهذه النقطة كانت حاضرة وبقوة في العرض الأول للفيلم الذي أتاح لأبطاله فرصة للتحدث لجمهور أوسع.

أيضا الفيلم بدأ بحلم لدى المخرجة نانسي كمال التي زارت المركز لأول مرة عندما كانت تدرس في كلية الفنون الجميلة في رحلة من تلك الرحلات التي كانت تنظم لطلاب الكليات والمعاهد الفنية، ولم تقتصر عليهم في زمن ما، إذ كانت هناك رحلات تنظم لتلاميذ المدارس الابتدائية، وكانت هذه الرحلات وسيلة أساسية لتحقيق ما تتصوره السيدة سوزان ويصا وزوجها إكرام نصحي، حينما قالا بصدق إن المركز مفتوح لمن يريد ويختار أن يتعلم من هذه التجربة ويستلهمها. هناك الكثير من الموضوعات والبرامج التي أعدت ونُشرت وأذيعت عن المركز، خصوصاً مع كل جائزة تنالها مبدعة أو ينالها مبدع من النساجين الفطريين الذين ارتبطوا بالمركز، لكن هذه الموضوعات لم تفعل ما فعله الفيلم والندوة من أثر، لأنهما ذهبا مباشرة إلى روح المشروع وفكرته الأساسية. 
-----------------------------
بقلم: أشرف راضي  

شاهد حلقة تليفزيونية عن الفيلم ولقاء مع مخرجته

مقالات اخرى للكاتب

صباحيات| ليست ازدواجية للمعايير، بل تعددية أو غياب أحيانا